شهداء الوطنشخصيات لها تاريخ

شيحاني بشير

سياسي ذو نظرة ثاقبة وقائد ثوري محنك، يُعرف بأنه البطل في الميدان والقناص الفذ. يشن بإستراتيجياته هجمات على معاقل المستعمر، وبحنكته يخلق مسارات للخلاص وتزويد الثورة بالعتاد.

كسب الثقة  الراسخةً والمستحقة لمصطفى بن بولعيد، لذا أقام شيحاني بشير قريبًا منه كمستشارٍ ومعاونٍ موثوق به، معلنًا بوضوح أنه ليس قلقًا بشأن مستقبل الثورة في المنطقة التي يشرف عليها بشير. نظرًا لهيبته وفطنته المميزة للعقلاء، أطلق الناس عليه لقب “الشيخ” تكريمًا لحكمته المثمرة، ودقة خياراته، ونظرته النافذة، بالإضافة إلى شخصيته القوية التي تجمع بين الخبرة السياسية والعسكرية والفكرية.

تنازل عن فرصة توسيع معارفه والحصول على درجات علمية رفيعة بسبب هوسه بالكفاح من أجل الحرية، متمسك بقيمه ورافض لتقبّل واقع قاتم رسمته قسوة المستعمر الذي يستنكره. كان يتميز بمهارة التناغم والتوافق العالية مع رفاقه في النشاط، يبدو كالمهندس الدقيق في الاستعدادات لإعداد الكمائن، وكالقناص الماهر في التصويب لانتهاز الفرص وتجنب المخاطر.

تعليم مزدوج

ولد البشير ضمن أسرة تتمتع بموقف اقتصادي أفضل نسبياً من كثير من الأسر الجزائرية آنذاك، بفضل توفر الطعام وسهولة الحياة المعيشية، مما مكن البشير، الذي وُلد في 22 أبريل 1929 في الخروب بقسنطينة، من الاستفادة من فرص تعليمية بلغتين، حيث تعلم اللغة العربية في زاوية “سيدي أحميدة” واللغة الفرنسية في المدرسة الأهلية الفرنسية، المعروفة بالأندجيان. وُلِدَ لوالدين عطوفين وأسرة رحيمة، إذ كان أبوه تاجر تمور وأمه ربة منزل، وقد قدما له كل الدعم والعناية منذ صغره.

بحكم تميزه، لم يواجه صعوبة في الانتقال إلى المرحلة التكميلية، حيث التحق بمدرسة “جول فيرن” الإعدادية في قسنطينة، وأقام عند عائلة كان يُقال إن لها صلة قرابة بالعلامة ابن باديس. استمرّ في إثبات تفوقه وذكائه الواضح في الدراسة، واستطاع أن يحصل على شهادة التعليم المتوسط في عام 1949. لم تكن الظروف مواتية للالتحاق بالتعليم الثانوي بسهولة بسبب التمييز الذي كان يمارسه المستعمر وإقصاء الجزائريين، لكنه لم يستسلم وسعى للسفر إلى تونس لمواصلة تعليمه. وفي ظل عدم التوفر على مأوى أو أيدي مساعدة، اضطر للانتظار لمدة سنة أخرى، ثم التحق بمدرسته بفضل تكفل والده بنفقاته وعزمه على دفع كل المصاريف التي تمكنه من تحقيق أهدافه التعليمية.

قضى البشير سنة كاملة يغوص في دراسته بعيدًا عن دفء الأسرة وأرض الوطن، ولم يعكر صفو عزمه إلا إيمانه الراسخ بأهمية دعم إخوته في صراعهم ضد الاحتلال. خطا قرارًا حاسمًا بإنهاء مشواره الأكاديمي لينخرط في رحلة جديدة من الكفاح السياسي بنضج وفطنة، مستفيدًا من إجادته لغتي الضاد والغال. نهل البشير من معين “زاوية سيدي احميدة” علوم القرآن وأصول اللغة العربية، فيما تلقى من معاهد الاحتلال لغتهم وأساسيات تفرقتهم الظالمة بين المحليين والأوروبيين، ما أشعل في قلبه لهيب الإخلاص للوطن.

 النضال السياسي 

بدأ الشهيد ممارسة النشاط السياسي منذ صغره أثناء دراسته المتوسطة، حيث التحق بخلية تابعة لحركة النصر للحريات الديمقراطية في عام 1946. وكان نشطاً في تلك الحركة التي كانت تعمل ضمن المدرسة الإكمالية، يستزيد من منهجها، ويكتسب خبرة من مشرفيها وزملائه الأعضاء، مع الحفاظ على تفوقه الأكاديمي. كان يدافع بقوة عن فكرة استقلال دول شمال أفريقيا.

لم تستمر المحاولة الثانية للطالب التونسي في استكمال دراسته سوى سنة واحدة فحسب، على الأرجح لأن المصير المكتوب لهُ هذا الشاب المجتهد هو أن يخوض غمار الكفاح من أجل استقلال وحرية وطنه. عاد إلى تراب وطنه ليتلمس أحلامه ويغوص في مواقع متعددة للمقاومة، حيث بدأت ملحمته من مدينة قسنطينة والخروب وتلاغمة عبر خلية استطلاع واستخباراتية، وفي الوقت ذاته أصبح عضواً في هيئة تقديم الدعم لضحايا القمع السياسي. تصبح أنشطته السياسية وتحركاته المؤيدة للجزائر ورفع صوته في الدفاع عن حقوق شعبه المغتصبة واضحة وبينة ولا يخفيها، كل هذا جعل السلطات الفرنسية المتمثلة في محافظها تلقي انتباهًا خاصًا لوجوده وتشك بأنشطته.

استغل فترة التدريب السياسي الطويلة ليبرز مهاراته ومواهبه التي لاقت استحساناً من القاصي والداني، فتم تعيينه ليرأس دائرة بشار، حيث أطلق عليه لقب “سي الهواري”. بعدها انتقل إلى دائرة باتنة، حيث حظي بلقب جديد، إذ أصبح يعرف بـ”السي مسعود”. كان كثير من الناس يفضلون مناداته بـ”الشيخ” نظراً لحكمته وثباته في التفكير وروية بصيرته، رغم أنه كان في بدايات عقده الثالث بأعوام قليلة.

نَجاح البشير السياسي اللامع يرتكز على مهارته العالية في استمالة الآخرين نحوه بحيثيات متينة ووضوح في النظرة. إذ كان يحرص على تأثير المنتسبين للجيش الفرنسي من الجزائريين بهدف تفعيل دورهم في الدفاع عن الوطن والإسهام في استقلاله من قبضة الاستعمار. وقد توجت مساعيه بالنجاح حيث تم الموافقة على الطلب، الأمر الذي أسفر عن تأمين مخزون كبير من السلاح والعتاد الطبي وملابس الجيش.

 فجر الثورة مع بن بولعيد 

بمهاراته الإدارية وقدراته الإعلامية، بقي البشير ملازماً لصديقه البطل مصطفى بن بولعيد، يقدم له الدعم والاستشارة في جميع الأمور، سواء الكبيرة منها أم الصغيرة، وبشكل خاص فيما يتعلق بالترتيبات الإدارية لاندلاع الثورة، التي بدأت في شهر مايو عام 1954 من جبل “زلاطو”. قاد البشير الهجمات وشارك في التخطيط لكمائن ضد قوات العدو، وجهود اصطياد دورياته، ما مكّنه من بناء مصدر جديد لتوريد الأسلحة للثورة، بعد أسر مصطفى بن بولعيد على الحدود الجزائرية مع ليبيا.

قامت المجموعة المسماة بالستة بتفويض مهمة نائب قائد المنطقة الأولى إلى شيحاني بشير، الذي أصبح رفيقاً لمصطفى بن بولعيد في نشاطه التنظيمي وزياراته الميدانية، كما للتحقق من استعداد الكافة لبدء الانتفاضة. بعد ذلك، انتقل الاثنان إلى منطقة أريس، ومنها توسعا ليشملا منطقة بسكرة في نطاق مهامهم التأسيسية للثورة، إرشاد الثوار وقيادتهم، ونجحا في الإفلات من الحصار الذي نصبه العدو في يناير 1955. في بداية الثورة، أصدرت قيادة المنطقة الأولى قرارات وتوصيات، منها دعوة الشعب الجزائري لتقديم العون للثورة وتخويف الجزائريين الذين يتعاونون مع المستعمر الفرنسي. واستمر شيهاني بشير ببذل الجهود لضم أكبر عدد ممكن من المنتسبين لجيش المستعمر للانضمام إلى النضال الباسل في الثورة التحريرية.

 قاد معركة الجرف ببراعة 

لقد كان مثالاً للسياسي الذي يمتلك الخبرة والجندي الذي اكتسب البراعة في الميدان العسكري، خاصة بعدما تحمل مسؤولية نيابة القيادة لمنطقة الأوراس عندما توجه بن بولعيد إلى تونس في الثالث والعشرين من جانفي سنة 1955 بهدف تجهيز الأسلحة. شارك في دعم جهود شيحاني كل من عباس لغرور وعاجل لعجول، وظل شيحاني يدير الأمور بحنكة وينظم العمليات بشكل محكم، وهو ما يعكس حكمته وقدرته المتميزة في تقدير الأوضاع واتخاذ القرارات. هذا الأمر كان له أثره البالغ في تحقيق نجاحات على الساحة العسكرية وإلحاق الخسائر بقوات العدو، بل وتمكن أيضاً من فتح قنوات جديدة للحصول على الأسلحة من خلال تونس وكذلك عبر شن هجمات على مواقع العدو.

كان البشير شيحاني يُعتبر الوجه الأمين للثورة، حيث كان بن بولعيد يطمئن على مجرياتها عندما يتواجد شيحاني. في شهر فبراير من عام 1955، تسلم شيحاني خطاباً من بن بولعيد، مسؤول الأسلحة حينذاك، يبلغه فيه بأن مدينة تبسة لم تنخرط بعد بشكل فاعل ومنظم في الثورة. عندئذ، لم يتردد شيحاني في الانتقال إلى تلك المنطقة، وهناك أخذ على عاتقه مسؤولية توزيع المجاهدين وتنظيم صفوفهم، وكذلك بناء جسور الاتصال بينهم. بعد وقوع بن بولعيد في الأسر، عقد شيحاني اجتماعاً مع معاونيه وقادة المناطق المختلفة، بمن فيهم شقيق بن بولعيد، وأصر خلال الاجتماع على أهمية مواصلة الكفاح الثوري رغم النكسة الناجمة عن فقدان قائدهم، مما أسفر عن التوافق على اختيار عمر بن بولعيد رئيساً شرفياً وتعيين شيحاني قائداً للأركان.

يشهد له انه قاد معركة الجرف الكبيرة بشجاعة وذكاء وخطط لها بحنكة العسكريين الكبار، استشهد البطل في 2أكتوبر 1955 بمنطقة الأوراس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى