اطباق وعادات تقليدية

القشّابية الخنشلية… عباءة الشتاء التي تصمد أمام البرد وتحفظ ذاكرة الأوراس

في ليالي ديسمبر الباردة، حين يشتد الصقيع وتلامس درجات الحرارة الصفر في أعالي الهضاب، تعود القشّابية الخنشلية لتفرض حضورها كأحد أبرز الألبسة التقليدية في الجزائر، وركن أصيل من التراث المادي لمنطقة الأوراس. فهي ليست مجرد لباس يُقاوم برد الشتاء القارس، بل هوية ثقافية متجذّرة، وذاكرة جماعية ما تزال حيّة في تفاصيل الحياة اليومية للسكان.

لباس يتحدى الزمن والموضة

رغم التحولات الاجتماعية وتغيّر أنماط اللباس، لم تنجرف القشّابية أمام موجات الموضة الحديثة، بل حافظت على مكانتها بين الألبسة الرجالية التقليدية، وخاصة في ولاية خنشلة.
ولم يعد ارتداؤها حكرًا على كبار السن، إذ أقبل عليها الشباب أيضًا، بعد أن أدخل بعض الحرفيين تعديلات طفيفة جعلتها أكثر انسجامًا مع العصر، دون المساس بروحها الأصلية، فتحولت في بعض تصاميمها إلى ما يشبه المعطف العصري.

صناعة محلية وجمال يدوي

تتميّز القشّابية الخنشلية بصناعتها التقليدية القائمة على الصوف الخالص أو الوبر، وهي حرفة متوارثة عبر الأجيال، تتطلب خبرة ودقة وصبرًا طويلًا.
وتبدع النساء الحرفيات بشكل خاص في نسج هذا اللباس، رغم الجهد الكبير والوقت الطويل الذي يتطلبه إخراج قشّابية واحدة، خاصة تلك التي تُخاط يدويًا من البداية إلى النهاية.
وفي هذا السياق، برزت نساء مناطق بابار، زوي، أنسيغة وطامزة كحارسات حقيقيات لهذا الموروث، حيث ما زلن يحافظن على تقنيات النسج التقليدية، ويضفن لمساتهـن الخاصة على الألوان والخيوط، في عمل يجمع بين الحرفة والفن والصبر.

رمز تاريخي يحمل ذاكرة الثورة

لا تنفصل القشّابية عن التاريخ الوطني، إذ ارتداها المجاهدون خلال الثورة التحريرية الجزائرية (1954–1962) في الجبال والمناطق الوعرة، لما توفره من دفء ومرونة وقدرة على التكيّف مع قساوة المناخ.
ومن هنا اكتسبت القشّابية رمزية خاصة، جعلتها مرتبطة في الوجدان الشعبي بالشموخ والرجولة والصمود.

لباس يجمع ولا يفرّق

من الخصائص اللافتة للقشّابية أنها لا تعكس أي انتماء طبقي، فهي لباس مشترك بين جميع فئات المجتمع؛ يرتديها الفلاح والتاجر، المسؤول والمواطن البسيط، في المناسبات اليومية والرسمية على حد سواء.
وتجدها اليوم حاضرة حتى في المدن الكبرى، بما فيها العاصمة، حيث يشهد الطلب على الألبسة التقليدية إقبالًا متزايدًا خلال فصل الشتاء.

تحديات الحرفة بين الغلاء والتسويق

ورغم أهميتها الثقافية، لا تزال صناعة القشّابية تواجه عدة تحديات، أبرزها ارتفاع أسعار المواد الأولية من صوف ووبر، إلى جانب ضعف قنوات التسويق وغياب الترويج الرقمي، ما يهدد استمرارية هذه الحرفة التقليدية.

وتتفاوت أسعار القشّابية حسب النوعية وطريقة الخياطة، إذ تبدأ من نحو 20 ألف دينار جزائري، وقد تتجاوز 100 ألف دينار في الأنواع اليدوية عالية الجودة.

القشّابية… دفء يلبس الهوية

في زمن السرعة وتغيّر الأذواق، تبقى القشّابية الخنشلية أكثر من مجرد لباس شتوي؛ إنها ذاكرة تُلبس، وتراث يُمارَس، وهوية تُنقل من جيل إلى جيل.
ومع كل شتاء جديد، تؤكد هذه العباءة الصوفية أن ما صمد أمام قسوة الطبيعة، قادر على الصمود أيضًا أمام تقلبات الزمن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى