
ليلة الحسم: عندما تنفس الوطن عبق الحرية
ليلة الحسم: عندما تنفس الوطن عبق الحرية
في تلك الليلة النوفمبرية، حين كانت نجوم السماء تتلألأ فوق جبال خنشلة الشامخة، كان القدر يرسم ملحمة تاريخية على أرض الجزائر العظيمة. في “شعبة الغولة” بالحامة، تجمع رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يقودهم البطل عباس لغرور، ليكتبوا بأحرف من نور فجراً جديداً في تاريخ أمة.
كان المشهد مهيباً في تلك الليلة الباردة من عام 1954، حيث التقت القلوب قبل الأيدي، والتحمت الإرادات قبل السواعد. الغابات الكثيفة والتضاريس الوعرة كانت حاضنة لسر من أعظم أسرار التاريخ، وشاهدة على ميلاد فجر الحرية.
في ذلك الاجتماع السري، لم تكن الكلمات مجرد حروف تُنطق، بل كانت عهداً يُقطع وقَسَماً يُؤدى. صدحت كلمات عباس لغرور في الليل الساكن، تحمل في طياتها بذور الثورة وأحلام الشعب. “خالد وعقبة”، كلمة السر التي اختيرت بعناية، كانت أكثر من مجرد شفرة للتواصل، كانت استحضاراً لروح البطولة وعبق التاريخ.
تناثر المجاهدون بعد ذلك الاجتماع كنجوم في سماء الوطن، كل منهم يحمل في قلبه شعلة الثورة وفي عقله خطة العمل. لم يكن الخوف يعرف إلى قلوبهم سبيلاً، فقد كان إيمانهم بعدالة قضيتهم أقوى من كل المخاوف، وثقتهم بدعم شعبهم أعمق من كل الجراح.
تلك الليلة في خنشلة لم تكن مجرد اجتماع عابر، بل كانت نقطة تحول في مسار شعب بأكمله. كانت اللحظة التي قرر فيها أبناء الجزائر أن يكسروا قيود الاستعمار وأن يستعيدوا حريتهم المسلوبة، مهما كان الثمن.
واليوم، ونحن نستذكر تلك الليلة التاريخية، نستشعر عظمة التضحيات التي قدمها أولئك الأبطال. كل شجرة في غابات خنشلة، وكل صخرة في جبال الأوراس، تحكي قصة رجال آمنوا بوطنهم وضحوا من أجله.
إن ذكرى ليلة نوفمبر في خنشلة ليست مجرد حدث نؤرخ له، بل هي درس في التضحية والفداء، ومدرسة في الوطنية والانتماء. هي رسالة متجددة لكل الأجيال بأن الحرية لا تُوهب بل تُنتزع، وأن الكرامة لا تُستجدى بل تُصنع بسواعد الرجال وعزيمة الأبطال.
فلنحفظ هذه الذكرى في قلوبنا، ولنعلم أجيالنا القادمة أن أرض الجزائر الطاهرة رُويت بدماء الشهداء، وأن حريتنا اليوم هي ثمرة تضحيات أولئك الأبطال الذين اجتمعوا في تلك الليلة النوفمبرية المباركة.
“خالد وعقبة”: رمزية التحرير وإرث الفاتحين
إن اختيار كلمة السر “خالد وعقبة” لم يكن اعتباطياً، بل كان يحمل في طياته عمقاً تاريخياً وبُعداً رمزياً عظيماً. فخالد بن الوليد وعقبة بن نافع يمثلان قامتين شامختين في تاريخ الفتوحات الإسلامية، وفي تاريخ شمال إفريقيا خاصة.
عقبة بن نافع، مؤسس مدينة القيروان وفاتح المغرب العربي، كان رمزاً للشجاعة والإصرار. وصلت فتوحاته إلى أقصى المغرب، وكان له دور محوري في نشر الإسلام في شمال إفريقيا. اختيار اسمه كان استحضاراً لروح الفتح والتحرير التي جسدها في مسيرته.
أما خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، فكان رمزاً للقيادة العسكرية الفذة والإستراتيجية المحكمة. عُرف بقدرته على تحويل الهزائم إلى انتصارات، وبراعته في التخطيط العسكري.
وكأن المجاهدين في تلك الليلة أرادوا أن يستلهموا من هذين القائدين العظيمين:
- روح المقاومة والإصرار على التحرير من عقبة
- والتفوق العسكري والقيادة الحكيمة من خالد
كانت هذه التسمية بمثابة رسالة معنوية قوية للمجاهدين، تذكرهم بأنهم امتداد لتاريخ عريق من المقاومة والتحرير، وأن نضالهم ضد الاستعمار الفرنسي هو استمرار لمسيرة التحرير التي بدأها أولئك الفاتحون العظام.
وفي اختيار هذين الاسمين معاً إشارة إلى الجمع بين القوة العسكرية والرسالة الحضارية، تماماً كما كان المجاهدون يناضلون ليس فقط من أجل تحرير الأرض، بل أيضاً من أجل استعادة الهوية والحضارة والكرامة المسلوبة.



